فصل: سبب آخر في نزول الآية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 سورة الأنفال

 مقدمة

‏}‏ وهي مدنية، آياتها سبعون وخمس آيات، كلماتها ألف وستمائة كلمة وإحدى وثلاثون كلمة، حروفها خمسة ألاف ومائتان وأربعة وتسعون حرفاً، واللّه أعلم‏.‏

بسم اللّه الرحمن الرحيم

 الآية رقم ‏(‏1‏)‏

‏{‏ يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ‏}‏

قال البخاري‏:‏ الأنفال المغانم، عن سعيد بن جبير قال، قلت لابن عباس رضي اللّه عنهما سورة الأنفال، قال‏:‏ نزلت في بدر، وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ الأنفال الغنائم، كانت لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خالصة ليس لأحد منها شيء وكذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء والضحاك وقتادة ومقاتل بن حيان وغير واحد أنها المغانم ؛ قال فيها لبيد‏:‏

إن تقوى ربنا خير نَفَلْ * وبإذن اللّه رَيْثى والعجل

وقال ابن جرير عن القاسم بن محمد قال‏:‏ سمعت رجلاً يسأل ابن عباس عن الأنفال‏؟‏ فقال ابن عباس رضي اللّه عنهما‏:‏ الفرس من النفل والسلب من النفل، ثم عاد لمسألته، فقال ابن عباس أيضاً، ثم قال الرجل‏:‏ الأنفال التي قال اللّه في كتابه ما هي‏؟‏ قال القاسم‏:‏ فلم يزل يسأله حتى كاد يحرجه، فقال ابن عباس‏:‏ أتدرون ما مثل هذا‏؟‏‏.‏‏.‏ مثل صبيع الذي ضربه عمر بن الخطاب‏.‏ وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس أنه فسر النفل بما ينفله الإمام لبعض الأشخاص من سلب أو نحوه بعد قسم أصل المغنم، وهو المتبادر إلى فهم كثير من الفقهاء من لفظ النفل، واللّه أعلم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ إنهم سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الخمس بعد الأربعة من الأخماس، فنزلت‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الأنفال‏}‏، وقال ابن مسعود‏:‏ لا نفل يوم الزحف، إنما النفل قبل التقاء الصفوف، وقال ابن المبارك عن عطاء بن أبي رباح في الآية ‏{‏يسألونك عن الأنفال‏}‏ قال يسألونك فيما شذ من المشركين إلى المسلمين في غير قتال من دابة أو عبد أو أمة أو متاع، فهو نفل للنبي صلى اللّه عليه وسلم يصنع به ما يشاء، قال ابن جرير وقال آخرون‏:‏ هي أنفال السرايا، بلغني في قوله تعالى ‏{‏يسألونك عن الأنفال‏}‏ قال‏:‏ السرايا، ومعنى هذا ما ينفله الإمام لبعض السرايا زيادة على قسمهم مع بقية الجيش،

وقد صرح بذلك الشعبي، واختار ابن جرير أنها الزيادة على القسم، ويشهد بذلك ما ورد في  سبب نزول الآية وهو ما روي عن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه، وكان يسمى ذا الكتيفة، فأتيت به النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏)‏اذهب فاطرحه في القبض‏(‏،

قال‏:‏ فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا اللّه من قتل أخي وأخذ سلبي، قال‏:‏ فما جاوزت إلا يسيراً، حتى نزلت سورة الأنفال فقال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ اذهب فخذ سلبك‏)‏

 سبب آخر في نزول الآية ‏:‏

وقال الإمام أحمد عن أبي أمامة قال‏:‏ سألت عبادة عن الأنفال، فقال‏:‏ فينا أصحاب بدر نزلت، حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا، فاتنزعه اللّه من أيدينا،

وجعله إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقسمه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين المسلمين عن بواء، يقول‏:‏ عن سواء‏.‏ وقال الإمام أحمد أيضاً عن عبادة بن الصامت قال‏:‏ خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فشهدت معه بدراً، فالتقى الناس فهزم اللّه تعالى العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون، وأقبلت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة حتى إذا كان الليل، وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم‏:‏ نحن حويناها فليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو‏:‏ لستم بأحق به منا، نحن منعنا عنه العدو وهزمناهم، وقال الذين أحدقوا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ خفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به، فنزلت‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الأنفال قل الأنفال للّه والرسول فاتقوا اللّه وأصلحوا ذات بينكم‏}‏، فقسمها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين المسلمين، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أغار في أرض العدو نفل الربع، فإذا أقبل راجعاً نفل الثلث، وكان يكره الأنفال ‏"‏رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وقال الترمذي‏:‏ هذا حديث صحيح‏"‏‏.‏ وروى أبو داود والنسائي وابن مردويه واللفظ له،

عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ لما كان يوم بدر قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا‏)‏ فتسارع في ذلك شبان القوم وبقي الشيوخ تحت الرايات، فلما كانت المغانم جاءوا يطلبون الذي جعل لهم، فقال الشيوخ لا تستأثروا علينا فإنا كنا ردءاً لكم لو انكشفتم لفئتم إلينا؛ فتنازعوا، فأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏يسالونك عن الأنفال - إلى قوله - واطيعوا اللّه ورسوله إن كنتم مؤمنين‏}‏، وقال الإمام القاسم بن سلام رحمه اللّه في كتاب الأموال الشرعية ‏:‏ أما الأنفال فهي المغانم، وكل نيل ناله المسلمون من أموال أهل الحرب فكانت الأنفال الأولى لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، يقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول‏}‏ فقسمها يوم بدر على ما أراه اللّه من غير أن يخمسها، ثم نزلت بعد ذلك آية الخمس فنسخت الأولى، قلت‏:‏ هكذا روي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد وعكرمة والسدي، وقال ابن زيد‏:‏ ليست منسوخة بل هي محكمة، والأنفال أصلها جماع الغنائم إلا أن الخمس منها مخصوص لأهله على ما نزل به الكتاب وجرت به السنّة‏.‏ ومعنى الأنفال في كلام العرب‏:‏ كل إحسان فعله فاعل تفضلاً من غير أن يجب ذلك عليه، فذلك النفل الذي أحله اللّه للمؤمنين من أموال عدوهم، وإنما هو شيء خصهم اللّه به تفضلاً منه عليهم، بعد أن كانت الغنائم محرمة على الأمم قبلهم، فنفلها اللّه تعالى هذه الأمة فهذا أصل النفل‏.‏ وشاهد هذا ما في الصحيحين‏:‏ ‏(‏وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي‏)‏ وذكر تمام الحديث‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتقوا اللّه وأصحلوا ذات بينكم‏}‏ أي اتقوا اللّه في أموركم وأصلحوا فيما بينكم ولا تظالموا ولا تخاصموا ولا تشاجروا، فما آتاكم اللّه من الهدى والعلم خير مما تختصمون بسببه، ‏{‏وأطيعوا اللّه ورسوله‏}‏ أي في قسمه بينكم على ما أراده اللّه، فإنه إنما يقسمه كما أمره اللّه من العدل والإنصاف، وقال ابن عباس‏:‏ هذا تحريج من اللّه ورسوله أن يتقوا ويصلحوا ذات بينهم، وقال السدي ‏{‏وأصلحوا ذات بينكم‏}‏ أي لا تستبوا، ولنذكر ههنا حديثاً أورده الحافظ أبو يعلى الموصلي رحمه اللّه في مسنده عن أنس رضي اللّه عنه قال‏:‏ بينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه، فقال عمر‏:‏ ما أضحكك يا رسول اللّه بأبي أنت وأمي‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏رجلان من أمتي جيثا بين يدي رب العزة تبارك وتعالى، فقال أحدهما‏:‏ يا رب خذ لي مظلمتي من أخي، قال اللّه تعالى‏:‏ أعط أخاك مظلمته، قال‏:‏ يا رب لم يبق من حسناتي شيء، قال‏:‏ رب فليحمل عني من أوزاري‏)‏، قال ففاضت عينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالبكاء، ثم قال‏:‏ ‏(‏إن ذلك ليوم عظيم، يوم يحتاج الناس إلى من يتحمل عنهم من أوزارهم، فقال اللّه تعالى للطالب‏:‏ ارفع بصرك وانظر في الجنان فرفع رأسه فقال‏:‏ يا رب أرى مدائن من فضة وقصوراً من ذهب مكللة باللؤلؤ، لأي نبي هذا‏؟‏ لأي صديق هذا‏؟‏ لأي شهيد هذا‏؟‏ قال‏:‏ هذا لمن أعطى ثمنه‏؟‏ قال‏:‏ رب ومن يملك ثمنه‏؟‏ قال‏:‏ أنت تملكه، قال‏:‏ ماذا يا رب‏؟‏ قال تعفو عن أخيك، وقال‏:‏ يا رب فإني قد عفوت عنه‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ خذ بيد أخيك فادخلا الجنة‏)‏ ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فاتقوا اللّه وأصلحوا ذات بينكم، فإن اللّه تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة‏)‏ ‏"‏أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏2 ‏:‏ 4‏)‏

‏{‏ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون ‏.‏ الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ‏.‏ أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ‏}‏

قال مجاهد‏:‏ ‏{‏وجلت قلوبهم‏}‏ فرقت أي فزعت وخافت، وهذه صفة المؤمن حق المؤمن الذي إذا ذكر اللّه وجل قلبه أي خاف منه، ففعل أوامره، وترك زواجره، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا اللّه فاستغفروا لذنوبهم‏}‏ الآية، وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى‏}‏ ولهذا قال سفيان الثوري، سمعت السدي يقول في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم‏}‏ قال‏:‏ هو الرجل يريد أن يظلم، أو قال يهم بمعصية، فيقال له‏:‏ اتق اللّه فيجل قلبه؛ وعن أم الدرداء في قوله‏:‏ ‏{‏إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم‏}‏ قالت‏:‏ الوجل في القلب كاحتراق السَّعْفة السعفة‏:‏ جريدة النخل ، أما تجد له قشعريرة‏؟‏ قال‏:‏ بلى، قالت‏:‏ إذا وجدت ذلك فادع اللّه عند ربك فإن الدعاء يذهب ذلك، وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{‏فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون‏}‏،

وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة بهذه الآية وأشباهها على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب، كما هو مذهب جمهور الأمة، بل قد حكى الإجماع عليه غير واحد من الأئمة كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد كما بينا ذلك مستقصى في أول شرح البخاري وللّه الحمد والمنة‏.‏ ‏{‏وعلى ربهم يتوكلون‏}‏ أي لا يرجون سواه ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك وحده لا شريك له، ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، ولهذا قال سعيد بن جبير‏:‏ التوكل على اللّه جماع الإيمان، وقوله‏:‏ ‏{‏الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون‏}‏، ينبه تعالى بذلك على أعمالهم بعدما ذكر اعتقادهم، وهذه الأعمال تشمل أنواع الخير كلها، وهو إقامة الصلاة وهو حق اللّه تعالى، وقال قتادة‏:‏ إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها، وقال مقاتل‏:‏ إقامتها المحافظة على مواقيتها، وإسباغ الطهور فيها، وتمام ركوعها وسجودها، وتلاوة القرآن فيها، والتشهد، والصلاة على النبي صلى اللّه عليه وسلم، هذا إقامتها، والإنفاق مما رزقهم اللّه يشمل إخراج الزكاة وسائر الحقوق للعباد من واجب ومستحب، والخلق كلهم عيال اللّه فأحبهم إلى اللّه أنفعهم لخلقه‏.‏ قال قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏ومما رزقناهم ينفقون‏}‏ فأنفقوا مما رزقكم اللّه، فإنما هذه الأموال عواري وودائع عندك يا ابن آدم أوشكت أن تفارقها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك هم المؤمنون حقا‏}‏ أي المتصفون بهذه الصفات هم المؤمنون حق الإيمان‏.‏ عن الحارث بن مالك الأنصاري‏:‏ أنه مر برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال له‏:‏ ‏(‏كيف أصبحت يا حارث‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ أصبحت مؤمناً حقاً، قال‏:‏ ‏(‏انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك‏؟‏‏)‏ فقال‏:‏ عزفتْ نفسي عن الدنيا، فأسهرتُ ليلي، وأظمأتُ نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون يتضاغون‏:‏ أي يرفعون أصواتهم بالصراخ والعويل فيها، فقال‏:‏ ‏(‏يا حارث عرفت فالزم‏)‏ ثلاثاً ‏"‏أخرجه الحافظ الطبراني عن الحارث بن مالك الأنصاري‏"‏‏.‏ وقال عمرو بن مرة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك هم المؤمنون حقا‏}‏ إنما أنزل القرآن بلسان العرب كقولك‏:‏ فلان سيد حقاً، وفي القوم سادة؛ وفلان تاجر حقاً، وفي القوم تجار؛ وفلان شاعر حقاً، وفي القوم شعراء‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لهم درجات عند ربهم‏}‏ أي منازل ومقامات ودرجات في الجنات، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لهم درجات عند اللّه والله بصير بما يعملون‏}‏، ‏{‏ومغفرة‏}‏ أي يغفر لهم السيئات ويشكر لهم الحسنات، وقال الضحاك‏:‏ أهل الجنة بعضهم فوق بعض، فيرى الذي هو فوق فضلَه على الذي هو أسفل منه، ولا يرى الذي هو أسفل منه أنه فضّل عليه أحد، ولهذا جاء في الصحيحين أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن أهل عليين ليراهم من أسفل منهم كما ترون الكوكب الغائر في أفق من آفاق السماء‏)‏ قالوا‏:‏ يا رسول اللّه تلك منازل الأنبياء لا ينالها غيرهم‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا باللّه وصدقوا المرسلين‏)‏، وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏إن أهل الجنة ليتراءون أهل الدرجات العلى كما تراءون الكوكب الغائر في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد وأهل السنن عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏5 ‏:‏ 8‏)‏

‏{‏ كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون ‏.‏ يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ‏.‏ وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ‏.‏ ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ‏}‏ قال الطبري‏:‏ اختلف المفسرون في السبب الجالب لهذه الكاف في قوله‏:‏ ‏{‏كما أخرجك ربك‏}‏ فقال بعضهم‏:‏ شبه به في الصلاح للمؤمنين، والمعنى‏:‏ أن اللّه تعالى يقول‏:‏ كما أنكم لما اختلفتم في المغانم وتشاححتم فيها، فانتزعها اللّه منكم، فكان هذا هو المصلحة التامة لكم، كذلك لما كرهتم الخروج إلى الأعداء وهم النفير الذين خرجوا لإحراز عيرهم، فكان عاقبة كراهتكم بأن قدره لكم على غير ميعاد رشداً وهدى، ونصراً وفتحاً، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم‏}‏، وقال آخرون‏:‏ معنى ذلك ‏{‏كما أخرجك ربك من بيتك بالحق‏}‏ على كره من فريق من المؤمنين، كذلك هم كارهون للقتال، فهم يجادلونك فيه بعدما تبين لهم، قال مجاهد‏:‏ ‏{‏كما أخرجك ربك‏}‏ كذلك يجادلونك في الحق‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ يسألونك عن الأنفال مجادلة كما جادلوك يوم بدر، فقا‏:‏ أخرجتنا للعير ولم تعلمنا قتالاً فنستعد له‏.‏ قلت‏:‏ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنما خرج من المدينة طالباً لعير أبي سفيان التي بلغه خبرها أنها صادرة من الشام فيها أموال جزيلة لقريش، فاستنهض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المسلمين، فخرج في ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً وجمع اللّه بين المسلمين والكافرين على غير ميعاد، لما يريد اللّه تعالى من إعلاء كلمة المسلمين ونصرهم على عدوهم والتفرقة بين الحق والباطل، والغرض ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما بلغه خروج النفير أوحى اللّه إليه، يعده إحدى الطائفتين إما العير وإما النفير، ورغب كثير من المسلمين إلى العير، لأنه كسب بلا قتال، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم‏}‏‏.‏

روى ابن أبي حاتم قال‏:‏ خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى بدر، حتى إذا كان بالروحاء خطب الناس فقال‏:‏ ‏)‏كيف ترون‏؟‏‏)‏ فقال أبو بكر‏:‏ يا رسول اللّه بلغنا أنهم بمكان كذا وكذا، قال‏:‏ ثم خطب الناس فقال‏:‏ ‏(‏كيف ترون‏؟‏‏)‏ فقال عمر‏:‏ مثل قول أبي بكر، ثم خطب الناس فقال‏:‏ ‏(‏كيف ترون‏؟‏‏)‏ فقال سعد بن معاذ‏:‏ يا رسول اللّه إيانا تريد‏؟‏ فوالذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب ما سلكتها قط ولا لي بها علم، ولئن سرت حتى تأتي برك الغماد من ذي يمن لنسيرن معك، ولا نكون كالذين قالوا لموسى‏:‏ ‏{‏اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون‏}‏، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، ولعلك أن تكون خرجت لأمر، وأحدث اللّه إليك غيره، فانظر الذي أحدث اللّه إليك فامض له، فصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وعاد من شئت، وسالم من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، فنزل القرآن على قول سعد‏:‏ ‏{‏كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم من حديث محمد بن عمرو بن علقمة بن أبي وقاص الليثي عن أبيه عن جده‏"‏الآيات، وقال ابن عباس‏:‏ لما شاور النبي صلى اللّه عليه وسلم في لقاء العدو، وقال له سعد بن عبادة ما قال، وذلك يوم بدر أمر الناس أن يتهيأوا للقتال وأمرهم بالشوكة، فكره ذلك أهل الإيمان، فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون‏}‏، وقال مجاهد‏:‏ يجادلونك في الحق‏:‏ في القتال للقاء المشركين‏.‏ عن عكرمة عن ابن عباس قال، قيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين فرغ من بدر‏:‏ عليك بالعير ليس دونها شيء‏.‏ فناداه العباس بن عبد المطلب وهو أسير في وثاقه‏:‏ إنه لا يصلح لك، قال‏:‏ ولم‏؟‏ قال‏:‏ لأن اللّه عزَّ وجلَّ إنما وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك اللّه ما وعدك ‏"‏أخرجه الإمام أحمد قال ابن كثير‏:‏ إسناده جيد ولم يخرجه أحد من أهل الكتب الستة‏"‏‏.‏ ومعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم‏}‏ أي يحبون أن الطائفة التي لا منعة ولا قتال تكون لكم وهي العير، ‏{‏ويريد اللّه أن يحق الحق بكلماته‏}‏ أي هو يريد أن يجمع بينكم وبين الطائفة التي لها الشوكة والقتال ليظفركم بهم وينصركم عليهم، ويظهر دينه، ويرفع كلمة الإسلام، ويجعله غالباً على الأديان، وهو أعلم بعواقب الأمور، وهو الذي يدبركم بحسن تدبيره، وإن كان العباد يحبون خلاف ذلك فيما يظهر لهم‏.‏

وقال محمد بن إسحاق رحمه اللّه‏:‏ لما سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأبي سفيان مقبلاً من الشام ندب المسلمين إليهم، وقال‏:‏ هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل اللّه أن ينفلكموها، فانتدب الناس فخف بعضهم، وثقل بعضهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يلقى حرباً، وكان أبو سفيان قد استنفر حين دنا من الحجاز، يتجسس الأخبار، ويسأل من لقي من الركبان تخوفاً على أمر الناس حتى أصاب خبراً من بعض الركبان أن محمداً قد استنفر أصحابه لك ولعيرك فحذر عند ذلك، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى أهل مكة وأمره أن يأتي قريشاً، فسيتنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمداً قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعاً إلى مكة، وخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في أصحابه حتى بلغ وادياً يقال له ذفران، فخرح منه، حتى إذا كان ببعضه نزل، وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الناس، وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر رضي اللّه عنه فقال فأحسن، ثم قام عمر رضي اللّه عنه، فقال فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال‏:‏ يا رسول اللّه امض لما أمرك اللّه به فنحن معك، واللّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى‏:‏ ‏{‏اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون‏}‏، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد - يعني مدينة الحبشة - لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خيراً،

ودعا له بخير، ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أشيروا علي أيها الناس‏)‏ وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم كانوا عدد الناس، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا‏:‏ يا رسول اللّه، إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا، ونساءنا وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم، فلما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك، قال له سعد بن معاذ‏:‏ واللّه لكأنك تريدنا يا رسول اللّه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أجل‏)‏، فقال‏:‏ فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول اللّه لما أمرك اللّه، فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما يتخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل اللّه يريك، ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة اللّه، فسر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال‏:‏ ‏(‏سيروا على بركة اللّه وأبشروا فإن اللّه قد وعدني إحدى الطائفتين، واللّه لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم‏)‏، وروى العوفي عن ابن عباس نحو هذا، وكذلك قال السدي وقتادة وعبد الرحمن بن أسلم وغير واحد من علماء السلف والخلف، اختصرنا أقوالهم اكتفاء بسياق محمد بن إسحاق‏.‏

 الآية رقم ‏(‏9 ‏:‏ 10‏)‏

‏{‏ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ‏.‏ وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم ‏}‏

لما كان يوم بدر نظر النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلثمائة ونيف، ونظر إلى المشركين، فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي صلى اللّه عليه وسلم القبلة وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال‏:‏ ‏(‏اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً‏)‏ قال‏:‏ فما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فردّاه ثم التزمه من ورائه ثم قال‏:‏ يا نبي اللّه كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين‏}‏، فلما كان يومئذ التقوا فهزم اللّه المشركين، فقتل منهم سبعون رجلاً، وأسر منهم سبعون رجلاً، واستشار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبا بكر وعمر وعلياً فقال أبو يكر‏:‏ يا رسول اللّه هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذناه منهم قوى لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم اللّه فيكونوا لنا عضداً، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما ترى يا ابن الخطاب‏؟‏‏)‏ قلت‏:‏ واللّه ما أرى ما رأى أبو بكر،

ولكني أرى أن تمكني من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان - أخيه - فيضرب عنقه، حتى يعلم اللّه أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم، فهوي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد قال عمر‏:‏ فغدوت إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وأبي بكر وهما يبكيان، فقلت‏:‏ يا رسول اللّه ما يبكيك أنت وصاحبك‏؟‏ فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، قال النبي صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏للذي عرض عليَّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض عليَّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة‏)‏ الشجرة قريبة من النبي صلى اللّه عليه وسلم، وأنزل اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض - إلى قوله - فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً‏}‏، فأحل لهم الغنائم فلما كان يوم أُحُد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون، وفر أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن اللّه على كل شيء قدير‏}‏ بأخذكم الفداء ‏"‏رواه الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وابن جرير‏"‏‏.‏

قال البخاري في كتاب المغازي باب قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم‏}‏ الآية، عن طارق بن شهاب قال، سمعت ابن مسعود يقول‏:‏ شهدت من المقداد بن الأسود مشهداً لأن أكون صاحبه أحب إليَّ مما عدل به، أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال‏:‏ لا نقول كما قال قوم موسى ‏{‏اذهب أنت وربك فقاتلا‏}‏، ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك ومن خلفك، فرأيت النبي صلى اللّه عليه وسلم أشرق وجهه وسره، يعني قوله، وعن ابن عباس قال، قال النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم بدر‏:‏ ‏(‏اللهم أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد‏)‏ فأخذ أبو بكر بيده فقال‏:‏ حسبك، فخرج وهو يقول‏:‏ ‏(‏سيهزم الجمع ويولون الدبر‏) وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بألف من الملائكة مردفين‏}‏ أي يردف بعضهم بعضاً، كما قال ابن عباس ‏{‏مردفين‏}‏‏:‏ متتابعين، ويحتمل أن المراد ‏{‏مردفين‏}‏ لكم أي نجدة لكم، كما قال العوفي عن ابن عباس ‏{‏مردفين‏}‏ يقول‏:‏ المدد، كما تقول أنت للرجل زده كذا وكذا وبه قال مجاهد وابن كثير القارئ وابن زيد ‏.‏ وفي رواية ‏{‏مردفين‏}‏ قال‏:‏ بعضهم على أثر بعض، وقال ابن جرير‏:‏ نزل جبريل في ألف من الملائكة عن ميمنة النبي صلى اللّه عليه وسلم وفيها أبو بكر، ونزل ميكائيل في ألف من الملائكة عن ميسرة النبي صلى اللّه عليه وسلم، وهذا يقتضي - إن صح إسناده - أن الألف مردفة بمثلها، ولهذا قرأ بعضهم‏:‏ ‏{‏مردفين‏}‏ بفتح الدال واللّه أعلم،

والمشهور ما روي عن ابن عباس قال‏:‏ وأمد اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة، فكان جبريل في خمسمائة من الملائكة مجنبة، وميكائيل في خمسمائة مجنبة، وروي عن ابن عباس قال‏:‏ بينا رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول‏:‏ أقدم حيزوم، إذا نظر إلى المشرك فخر مستلقياً، قال‏:‏ فنظر إليه، فإذا هو قد حطم وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة، فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين ‏"‏أخرجه مسلم وابن جرير‏"‏‏.‏

وفي البخاري قال‏:‏ جاء جبريل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ما تعدون أهل بدر فيكم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏من أفضل المسلمين‏)‏ أو كلمة نحوها قال‏:‏ وكذلك من شهد بدراً من الملائكة، وفي

الصحيحين أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لعمر لما شاوره في قتل حاطب بن أبي بلتعة ‏(‏إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل اللّه قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم‏؟‏‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعله اللّه إلا بشرى‏}‏ الآية، أي وما جعل اللّه بعث الملائكة إلا بشرى ‏{‏ولتطمئن به قلوبكم‏}‏، وإلا فهو تعالى قادر على نصركم على أعدائكم ‏{‏وما النصر إلا من عند الله‏}‏ أي بدون ذلك، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ما النصر إلا من عند الله‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك ولو يشاء اللّه لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وتلك الأيام نداولها بين الناس‏}‏ فهذه حكم شرع اللّه جهاد الكفار بأيدي المؤمنين لأجلها، وقد كان تعالى إنما يعاقب الأمم السالفة المكذبة للأنبياء بالقوارع التي تعم تلك الأمم المكذبة، كما أهلك قوم نوح بالطوفان، وعاداً الأولى بالدبور، وثمود بالصيحة، وقوم لوط بالخسف والقلب وحجارة السجيل، وقوم شعيب بيوم الظلة، فلما بعث اللّه موسى وأهلك عدوه وأنزل على موسى التوراة شرع فيها قتال الكفار واستمر الحكم في بقية الشرائع بعده على ذلك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر‏}‏، وقتل المؤمنين للكافرين أشد إهانة للكافرين، واشفى لصدور المؤمنين، كما قال تعالى للمؤمنين‏:‏ ‏{‏قاتلوهم يعذبهم اللّه بأيديكم، ويخزهم وينصركم عليهم، ويشف صدور قوم مؤمنين‏}‏، ولهذا كان قتل صناديد قريش بأيدي أعدائهم، أنكى لهم وأشفى لصدور حزب الإيمان، وقتل أبي جهل في معركة القتال أشد إهانة له من موته على فراشه بقارعة أو صاعقة أو نحو ذلك، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن اللّه عزيز‏}‏ أي له العزة ولرسوله وللمؤمنين بهما في الدنيا والآخرة، ‏{‏حكيم‏}‏ فيما شرعه من قتلا الكفار مع القدرة على دمارهم وإهلاكهم بحوله وقوته سبحانه وتعالى‏.‏